دائمًا المستهلك النهائي هو الحلقة الأضعف في أي أزمات إقتصادية، حيث يتحمل العبء الأكبر في كل ما يترتب على ارتفاع تكاليف الإنتاج، وارتفاع الأسعار، وفي مختلف الأزمات، ويتأثر بشكل مباشر من تداعيات كل أزمة.
وفي أزمة نقص الغاز والتي تسببت في عدم تغطية القدر الكافي من توليد الكهرباء، وكان لها ومازال الأثر المباشر على إنتاج المصانع المنتجة للبتروكيماويات، والأسمدة، حيث توقفت خطوط إنتاج تغذي السوق المصري بالأسمدة، وهو ما ساهم في إرتفاع غير مسبوق في سوق الأسمدة بمختلف أنواعها.
وترتب على ذلك توقف نسبي في صرف الحكومة للأسمدة المدعمة للفلاحين بعد توقف بعض المصانع عن العمل بسبب نقص إمدادات الغاز.
ووفقا لما إنتهت إليه دراسة أعدتها "حلول للسياسات البديلة"، بالجامعة الأمريكية فإن الأسمدة تمثل أعلى نسبة ضمن مستلزمات الزراعة بنسبة 32% من إجمالي تكاليف الإنتاج النباتي في عام 2022/2021، في وقت تعتمد فيه الزراعة المصرية على الأسمدة الكيماوية بنسبة 97%.
ووفقا للأرقام الرسمية فقد ارتفعت أسعار الأسمدة بما يعادل 564% خلال الفترة من 2016/2015 إلى 2021/2020 مواكبة لزيادة تكاليف الإنتاج والطاقة، كما تشير الأرقام إلى ارتفاعات أخرى في آخر عامين وحتى الآن، وتنعكس زيادة تكاليف مدخلات الإنتاج بشكل مباشر على أسعار المحاصيل وقدرة المواطن على الحصول على الغذاء، خاصة في ظل التضخم الذي وصلت نسبته إلى 73.6% في سبتمبر 2023 مقارنة بالعام السابق.
وتنوه الدراسة إلى أن تصريح نقيب الفلاحين، عن خطورة وقف صرف الأسمدة المدعمة، يبرز الكثير من المخاطر، خصوصا التأثير المباشر لنقص وارتفاع كلفة الأسمدة في زيادة أسعار السلع الغذائية ، كما يعكس أزمة هيكلية يعيشها الفلاحون وتهدد الأمن والسيادة الغذائية.
ووفقا للدراسة فإن الأزمة في التراجع الحكومي عن إعانة الفلاحين تتجلى في الحصول على المستلزمات الزراعية عن طريق الجمعيات التعاونية والبنك الزراعي، في الوقت الذي يعد دعم المدخلات وعلى رأسها الأسمدة من أهم سبل الحماية الاجتماعية من الجوع والفقر.
ومن المخاطر التي تكشفها أرقام ميزانية الحكومة، أنه ورغم أهمية الأسمدة إلا أن حصتها من قيمة القروض العينية المقدمة إلى المزارعين قد تراجعت خلال العشر سنوات الماضية، ويهدد تراجع الحكومة عن دعم تلك المدخلات الإستراتيجية وتركها لتقلبات السوق الحر بزيادة أكثر في الأسعار.
ورغم أهمية منظومة التعاونيات الزراعية في تأمين المحاصيل الغذائية للسوق المحلي فإن الحكومة أهملتها، وتراجع الدعم الموجه إلى المزارعين الذي يصلهم عن طريق التعاونيات والبنك الزراعي من 0.53% من إجمالي الموازنة العامة في 2008/2007 إلى 0.10% في 2024/2023.
ونتوقف عند مخاطر أخرى على الفلاحين، أن التراجع في توفر الأسمدة المدعمة محليًّا يأتي في ظل قيام الحكومة ببيع حصص لها في أكبر شركات الأسمدة الرابحة لصناديق سيادية خليجية، ويؤدي النقص في كميات توريد الأسمدة للسوق المحلي بنسبة 5% إلى 20% زيادة في أسعار المحاصيل.
وبهذا تشكل خصخصة شركات الأسمدة تهديدًا للأمن الغذائي، لأن سيطرة السوق على مدخلات الزراعة من شأنه أن يرفع أسعارها، ويرجع هذا إلى تركيز القطاع الخاص على تعظيم الأرباح بعيدًا عن اعتبارات توفير الغذاء.
كما يشارك القطاع الخاص بنسبة ضعيفة، حوالي 20%، في توفير الأسمدة للسوق المحلي ويركز في تصدير 76.4% من إنتاجه إلى الخارج، لذا يقع العبء الأكبر في توفير الأسمدة للزراعة المحلية على القطاع العام بنسبة 80%، وفشلت الحكومة في إلزام القطاع الخاص بتوجيه 55% من إنتاجه للأسمدة المدعمة، و10% للبيع بالسعر الحر في السوق المحلي.
ومن التداعيات وجود عجز في الأسمدة المدعمة بنحو 1.8 مليون طن في أكتوبر 2023 بحسب تقرير مجلس الشيوخ، حيث تم توريد 2.2 مليون طن فقط من أصل 4 ملايين طن كان من المفترض أن توردها المصانع المنتجة للسوق المحلي.
يهدد تراجع نصيب الدولة في شركات الأسمدة والاعتماد المتزايد على القطاع الخاص في الإنتاج الزراعي قدرةَ الدولة على توفير الغذاء لمواطنيها بأسعار مناسبة، ويتجلى ذلك في شح الأسمدة المدعمة لعدم التزام القطاع الخاص بتوفير النسبة المخصصة للسوق المحلي، وقد صاحب ذلك الشح ارتفاع في أسعار الأسمدة من 4500 جنيه في يناير 2023 للطن إلى 17.3 ألف جنيه كمتوسط في السوق الحرة.
ولابد أن تأخذ الحكومة وفي إطار حل مشكلة أزمة الغذاء، مراعاة متطلبات وإحتياجات الفلاح من مستلزمات لإنتاح، وإدراك أن دعم الفلاحين أصحاب الحيازات الصغيرة من أهم ضمانات الأمن والسيادة الغذائية التي تسعى إليها الإستراتيجية المحدثة للتنمية الزراعية المستدامة في مصر 2030، للوصول بمعدل النمو في الناتج المحلي الزراعي إلى 4.5% سنويًّا لتحقيق درجات أعلى من الأمن الغذائي. وعدم ترك مدخلات الزراعة من دون حماية من السوق الحرة والتوسع في دعمها من أجل تمكين الفلاحين من الوصول إليها، والبدء في دعم أصحاب الحيازات الصغيرة للتحول إلى الزراعة العضوية التي تأمل الحكومة في أن تزيد من 3% إلى 6.7% من إجمالي الإنتاج الزراعي بحلول 2030.
الأهم من وجهة نظري أن تدرك الحكومة أن الفلاح هو الحلقة الأولى في تحقيق الأمن الغذائي، والعودة لحمايته من مخاطر إرتفاعات أسعار مستلزمات الإنتاج، هي نقطة الإنطلاق لتوفير غذاء محلي يكفي الإستهلاك الطبيعي، فبدون دعم الفلاح سنظل ندور في حلقات مفرغة من أزمات غذائية لا تنتهي، وحتى لانصل إلى نسيان أن الفلاح هو البداية لأمن غذائي وطني.
-------------------------
بقلم: محمود الحضري